إبادة غزة- تواطؤ دولي، صمت عربي، ومقاومة فلسطينية مستمرة.

وزير المالية الإسرائيلي يلخص أهداف الحرب الدائرة رحاها منذ تسعة عشر شهرًا، قائلاً بوضوح: "نريد تدمير ما تبقى من قطاع غزة، حتى لا يبقى حجر على حجر. سكان غزة سينتقلون قسرًا إلى جنوب القطاع، ومن هناك سيتم تهجيرهم إلى دولة ثالثة." هذه التصريحات تعكس مستوى العنف والهمجية والتجويع والقتل والتدمير الممنهج الذي يمارسونه.
بعد هذه التصريحات المروعة بأيام قليلة، وتحديدًا في الحادي والعشرين من مايو/أيار، ظهر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في خطاب إعلامي مباشر ليحدد غايات الحرب على غزة بإصرار، وهي: استعادة الأسرى الإسرائيليين، ونزع سلاح حركة حماس بشكل كامل، وإخراج حماس من القطاع، ومن ثم المضي قدمًا في تطبيق خطة ترامب المشؤومة، والتي تهدف بشكل صريح إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا إلى خارج القطاع.
هذا يعني بجلاء وبلا مواربة، وعلى لسان أبرز مسؤول في الحكومة الإسرائيلية، أن إسرائيل المحتلة لا ترغب على الإطلاق في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وأن المفاوضات الجارية حاليًا في الدوحة والقاهرة ليست سوى مسرحية هزلية، وشكل من أشكال إدارة الحرب وتطويل أمدها. فبنيامين نتنياهو أكّد بلسانه أنه حتى لو تم إطلاق سراح الأسرى كنتيجة للمفاوضات مع حماس، فإن الحرب ستُستأنف بكل شراسة بعد انتهاء الهدنة المؤقتة، وذلك حتى يتم تحقيق جميع أهداف الحرب المذكورة آنفًا.
موقف نتنياهو هذا ينبئ باستدامة الحرب لفترة طويلة، تمتد حتى موعد الانتخابات الإسرائيلية المقررة في منتصف العام 2026.
ولكي يضمن نتنياهو لنفسه غطاءً ودعمًا أميركيًا متواصلاً لهذه الحرب العدوانية، فقد أعلن عن استجابته لطلب أصدقاء إسرائيل في الكونغرس الأميركي، بالسماح بإدخال بعض المساعدات الإنسانية لتجنب حدوث مجاعة كارثية في غزة، وفقًا لزعمه. وبذلك، يوفر لنفسه غطاءً سياسيًا وماديًا كاملاً لإتمام المعركة في غزة والقضاء على المقاومة.
في هذا السياق المأساوي، قام الاحتلال الإسرائيلي بإدخال 92 شاحنة فقط من المساعدات، من أصل 45 ألف شاحنة يحتاجها قطاع غزة بشكل عاجل ومُلِحّ لتجاوز شبح المجاعة الذي يلوح في الأفق، نتيجة الإغلاق التام والحصار الخانق الذي استمر لأكثر من ثمانين يومًا. هذا الوضع دفع مفوضة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، لوصف هذه المساعدات الهزيلة بأنها "قطرة في محيط الاحتياجات الإنسانية الهائلة."
المِعيار هو الأفعال لا الأقوال
على الرغم من أن واشنطن تبدو ظاهريًا راغبة في وقف الحرب في قطاع غزة وإحلال السلام في المنطقة العربية، كما صرح الرئيس ترامب، إلا أن سلوكها الفعلي لا يعكس هذه الرغبة على الإطلاق، بل يثير شكوكًا عميقة حول مصداقية موقفها الداعي إلى وقف الحرب، التي تحولت إلى إبادة جماعية للفلسطينيين. فإسرائيل ما زالت تمارس القتل والتجويع بحق الفلسطينيين بلا رادع، وواشنطن- على أرض الواقع وعمليًا- تدعمها بلا حدود.
إذا كانت واشنطن جادة في وقف الحرب، فهي تمتلك القدرة على ذلك بقرار سياسي حقيقي، لا بمجرد إدارة إعلامية. فالرئيس الأميركي آيزنهاور، وباتصال مباشر مع بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، تمكن من وقف العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، مما أدى إلى انسحاب بريطانيا وفرنسا من قناة السويس، وانسحاب إسرائيل من سيناء وقطاع غزة.
الاتحاد الأوروبي والعديد من الدول الغربية الأخرى، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا والنرويج وهولندا وكندا، دعوا رسميًا وعلى لسان أرفع المسؤولين إلى وقف الحرب وإدخال المساعدات فورًا وبدون أي قيود، وهددوا بمعاقبة إسرائيل على سلوكها الوحشي، إذا لم تستجب لمطالبهم.
هذا الموقف، وإن جاء متأخرًا جدًا، إلا أنه يمثل تحولًا نوعيًا في الخطاب، ولكنه في الوقت نفسه يواجه اختبارًا حقيقيًا. فالمعيار الحقيقي هو الأفعال، وليس مجرد الأقوال.
يُشهد للعديد من الشعوب الأوروبية وشرائح واسعة من المجتمع الأميركي بموقفهم التاريخي الرافض لحرب الإبادة والتطهير العرقي في غزة، بعد أن انكشف الوجه الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي المتوحش. وقد كان هذا الرفض الشعبي سببًا رئيسيًا في تغيير مواقف حكوماتهم المحرجة سياسيًا وأخلاقيًا أمام شعوبها، التي قد تعاقبها عبر صناديق الاقتراع في أقرب وقت.
يبقى الحكم على مواقف الدول الغربية، التي طالما ادعت حمايتها للقانون الدولي والإنساني، مرهونًا بخطواتها وإجراءاتها العملية ضد إسرائيل، وعلى رأسها فرض عقوبات صارمة تحول دون استمرار عدوانها على غزة. فالاتحاد الأوروبي فرض على روسيا نحو سبع عشرة حزمة من العقوبات المتراكمة بهدف منع استمرار حربها على أوكرانيا، وهذا يمثل حجة قوية على الاتحاد الأوروبي ومصداقيته، وهو المنظومة الأكثر شراكة تجاريًا وعسكريًا وثقافيًا مع إسرائيل المحتلة.
حماس ليست سوى ذريعة
الحديث عن الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي أمر ضروري، نظرًا لموقعهما المؤثر على الساحة الدولية وعلى إسرائيل تحديدًا، إلا أن ذلك لا يعفي جامعة الدول العربية والدول العربية من مسؤوليتها الأخلاقية والقومية والسياسية، فهي الأقرب والأكثر تأثرًا بالتداعيات المأساوية للأحداث الجارية في قطاع غزة، والأكثر قدرة على التأثير على إسرائيل إذا ما أرادت استخدام أوراق قوتها لوقف الإبادة الجماعية وتهجير الفلسطينيين من أرضهم.
بإمكان الدول العربية وقف التطبيع مع إسرائيل المحتلة، ووقف كافة الشراكات الاقتصادية والأمنية معها، وتفعيل المقاطعة الشاملة ضد الاحتلال، حتى تتوقف هذه المجزرة بحق الفلسطينيين والإنسانية جمعاء. فالصمت المطبق يشجع الاحتلال على ارتكاب المزيد من الحماقات والجرائم الجنونية، التي ستطال الجميع، فلسطينيين وعرب.
من البديهي القول إن معركة إسرائيل ليست في الأساس مع حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، وإنما مع الشعب الفلسطيني بأكمله وتطلعاته الوطنية المشروعة، ومع الأطفال والنساء والشباب الفلسطيني. فالاحتلال يعتقد واهمًا أن الديموغرافيا الفلسطينية، والعنفوان الفلسطيني، والكفاءات العلمية الفلسطينية تشكل تحديًا وجوديًا له، فهم أصحاب الأرض الأصليون ويرفضون التخلي عنها، وهذا ما أثبتته السنوات السبع والسبعون من الاحتلال القائم على القتل والتهجير.
معركة إسرائيل هي معركة ضد الجميع، وتستهدف الجميع. فحركة حماس هي حلقة من حلقات النضال الطويل، وإن تلاشت أو انتهت، فلن يفنى النضال ولن تتراجع الثورة الفلسطينية عن هدف التحرير والعودة، فشعبنا الفلسطيني يقارب تعداده الخمسة عشر مليون نسمة، نصفهم داخل فلسطين المحتلة، والنصف الآخر مهجر يعيش أغلبه في دول الطوق العربي.
الناظر الفاحص يرى بوضوح مستوى الوحشية التي يمارسها الاحتلال، وكراهيته وانتقامه الأعمى من المدنيين الفلسطينيين في غزة، فأغلبية الشهداء هم من المدنيين الأبرياء، وثلث الشهداء البالغ عددهم نحو أربعة وخمسين ألفًا حتى الآن هم من الأطفال.
الاحتلال سعى منذ الأشهر الأولى لهذه المعركة إلى تدمير الجامعات والمدارس؛ لأنها منبع التربية والمعرفة، كما سعى إلى قتل الأطباء والمهندسين والمعلمين والأكاديميين والصحفيين وموظفي القطاع العام ونشطاء المجتمع المدني؛ لأنه يرى فيهم عدوًا عنيدًا وصلبًا يواجهه كاحتلال فاشي متوحش.
الاحتلال كان وما زال يعتبر الفلسطيني عدوًا يجب التخلص منه بأي ثمن. فمن دمر أكثر من خمسمئة بلدة وقرية وهجر ثلثي الشعب الفلسطيني عام 1948، ما زال يعمل بنفس العقلية الإجرامية وعلى ذات النهج والسياسة.
إذا كان بعض العرب يرون في حركة حماس والمقاومة الفلسطينية طرفًا غير مرغوب فيه لخلفيتها الإسلامية، فإن ذلك ليس مبررًا على الإطلاق للصمت على قتل الأطفال وتدمير معالم الحياة في قطاع غزة.
علاوة على ذلك، فإن تهجير الفلسطينيين سيعيد ثقل النضال الوطني من الداخل إلى الخارج، وهذا ليس في مصلحة الفلسطينيين ولا العرب على حد سواء، استنادًا إلى تجربة الثورة الفلسطينية. فإسرائيل تسعى جاهدة لنقل أزمتها كقوة احتلال إلى الدول العربية، لتصبح المشكلة صراعًا بين الفلسطينيين الساعين للتحرير والعودة، وبين الدول العربية التي ستجد نفسها في موقع الدفاع عن إسرائيل، بحكم اتفاقيات التطبيع المذلة.
حركة حماس قدمت خدمة جليلة لفلسطين وللدول العربية عندما نقلت النضال من الخارج إلى الداخل، ولم تتدخل في شؤون الدول العربية الأخرى بذريعة مقاومة الاحتلال، وهذا يستدعي على الأقل دعمًا للفلسطينيين، إن لم يكن وقوفًا كاملًا مع حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في وجه الاحتلال، الذي يشكل خطرًا استراتيجيًا على الأمة العربية بأكملها والإنسانية جمعاء، والذي بات اليوم واضحًا أكثر من أي وقت مضى.
الواقع المأساوي الذي يعيشه الفلسطيني في قطاع غزة، وعلى غراره في الضفة الغربية والقدس، بسبب الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، يضع العرب والإنسانية أمام امتحان تاريخي حاسم. فالعالم إما أن يستمر في صمته المخجل ويخسر إنسانيته، وإما أن يتحرك بكل قوته لإنقاذ البشرية، والتي أصبحت غزة أحد أهم عناوينها البارزة.